بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
ايها الأحبة في الله ...
خلق الله القلوب مختلفة في تقبلها للأشياء..فمنها ما تجده طيبا سريعا في تقبل الخير و التأثر به ،...و منها ما تجده خبيثا لا يتقبل غيث الهدى..
قال صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
«مَثَلُ مَا بَعَثَنِي الله مِن الهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا؛ فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَت المَاءَ فَأَنْبَتَت الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ, وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَت المَاءَ فَنَفَعَ الله بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا, وَأَصَابَ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً؛ فَذَلِكَ مَثَلُ مَن فَقُهَ فِي دِينِ الله وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي الله بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ, وَمَثَلُ مَن لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى الله الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ». [رواه الشيخان]
فالقلوب كالأراضي منها الطيب الذي يتقبل الماء و ينبت الزرع ..فينتفع بالحق و ينفع به ..
و منها ما لا يتأثر بما يتلى عليه من الهدى و الحق ...
و من ههنا يحدث التفاوت بين الناس ، فمنهم من لا تضره الفتن ، و لا تُبقي في قلبه أثرا كبيرا..
و هذا هو القلب السليم الذي إذا أتته الفتن أنكرها ، و فر منها و لاذ بحصن الله،..
و منهم ما تُبقي فيه الفتن آثارا و ندوبا تظل تشاكسه و تحول بينه و بين الكمال الإنساني حتى تدخل معه القبر..
و الناس في هذا ما بين مستقل و مستكثر،..فقد تستقر الفتن و تتمدد حتى تغلُب على القلب..و قد يبقى منها الأثر قليلا كان او كثيرا...
و قد بين لنا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحكمة من الفتن.. و أنها إمتحان القلوب ..حتى يعلم كل منا حقيقة أمره و حال قلبه..فإذا وجده فاسقا همَّ في اصلاحه..و إن وجده صالحا شكر نعمة الله عليه ، فصانه عن غوائل الشهوات و الشبهات...
قال حذيفة: سمعت رسول الله :" تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَتْ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ؛وَ أَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا، نُكِتَتْ فِيهِ نُكْتَهٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا، فَلا تَضَرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ، وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا، لا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ" [أخرجه مسلم]
مُجَخِّيًا: اي منكوسا
مُرْبَادًّا : اي اختلط فيه سواد ببياض
بين لنا النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديث أن الله قضى-و هو العليم الحكيم - أنه لا بد من امتحان القلوب و اختبارها ، فتعرض عليها الفتن ..
- فهذا يفتن بالمال و الولد: قال تعالى : {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (28) سورة الأنفال.
-و هذا يفتن بالعطاء،و ذلك يفتن بالمنع ..و آخر يبتلى بالشر، و غيره يبتلى بالخير ..قال جل و علا :{ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (35) سورة الأنبياء.
- و يفتن العبد العبد ايضا بالإمهال : ( وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) (111) سورة الأنبياء.
- و يُفتن بالوسوسة : { لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} (53) سورة الحج .
- و يُفتن بالخلطة مع الناس :{وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا } (20) سورة الفرقان.
- و يُفتن بالظلم و القهر و الذى : {وَمِنَ النّاسِ مَن يِقُولُ آمَنّا بِاللّهِ فَإِذَآ أُوذِيَ فِي اللّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النّاسِ كَعَذَابِ اللّهِ وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مّن رّبّكَ لَيَقُولُنّ إِنّا كُنّا مَعَكُمْ أَوَ لَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ *وَلَيَعْلَمَنّ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ وَلَيَعْلَمَنّ الْمُنَافِقِينَ }. (10-11) سورة العنكبوت.
هي ابتلاءات متتالية ( عُودًا عُودًا) ...كثيرة شائعة كموج البحر ، تؤثر في القلب و تلتصق به كما يلتصق الحصير بجنب النائم ، يؤثر فيه شدة التصاقه به..
ان القلوب تتفاوت و تختلف في القابلية..فمنها ما يكون كالإسفنجة تتشرب كل ما يلقى غليها و تتشبع به..و منها ما يكون كالقارورة المُصْمَتَة ، تصد ما يأتيها من خارجها ، فلا يدخل إليها إلا ما يُفتح له...
فإذا أشرب القلب هذه الفتن ، فحينئذ تترك فيه اثرا كالنقطة السوداء في الثوب الأبيض، حتى إذا توالت على القلب و طغت عليه ، و لم تجد ما يصرفها، صار أسود مظلما .. لا سبيل لنور الهداية إليه... و يصير صاحبه عبدا خالا لهواه...
و من القلوب ما ينكر تلك الفتن.. فيترك ذلك اثراعظيما جميلا، و يظل طاهرا أبيض حتى يشتد على عقد الإيمان..و يسلم من الخلل و الآفات..فلا تؤثر فيه الفتن...
اخترته لكم من مكتبتي